ذكريات فؤاد عزب- المطارات، الغربة، والحياة بعد الشفاء

المؤلف: منيف الحربي11.23.2025
ذكريات فؤاد عزب- المطارات، الغربة، والحياة بعد الشفاء

«لطالما أسرني سحر المطارات.. إنني أستشعر فيها عبق الترحال، وأعيش نشوة الاكتشاف الأولى كلما شددت الرحال، كما يفوح منها أريج الوطن، وتترسخ الأحلام على امتداد الزمن حينما أعود أدراجي.

دأبتُ جاهداً في تلك الفترات التي تمضي ببطء شديد في أروقة الانتظار الباردة، على محاولة فهم شيفرتها الخفية، تلك التي لا تمنحها للمسافرين العابرين، بينما أرتشف آخر رشفة من قهوتي، وربما ابتسمتُ وأنا أستحضر إلى مخيلتي فيلم

The terminal، تلك التحفة السينمائية التي وجد فيها «توم هانكس» نفسه حبيسًا داخل أسوار مطار أمريكي، عاجزًا عن الدخول إلى أمريكا لجمع آخر ما تبقى من ذكريات والده الراحل، وغير قادر على العودة إلى وطنه، الذي عصفت به رياح الانقلابات. فقرر أن يعيد تشكيل ذلك العالم المؤقت في لحظة عابرة، ليعيش واقعه الخاص وعالمه الذي يحلم به.

ما زالت المطارات، وستظل، مجرد نقطة عابرة تستقر في أعماق روحك، وتحوم حول ثيابك، وعالم لم يكشف بعد عن كنوزه المخبأة، أو ربما في يوم من الأيام.. أو في حلم من الأحلام.. قد منحك نصيبًا من متعته الزائلة، في مقاهي الأمسيات الخالية، أو في آخر الحافلات المتجهة نحو الفجر».

الكلمات الآنفة الذكر ما هي إلا مقتطفات من مقال للفقيد الغالي الدكتور فؤاد مصطفى عزب، الذي كان يسطر لنا هنا (كل أربعاء)؛ بأسلوبه البديع وروحه المفعمة بالحياة وحروفه المتلألئة بالندى والمحبة.

اليوم، تحل الذكرى الثالثة لرحيله الموجع، حيث فارق دنيانا الفانية في السابع عشر من شهر سبتمبر لعام 2021م، وأقل ما يمكن أن نقدمه لرجل نبيل مثله هو أن نستذكر أثره العطر وأن ندعو له بالرحمة والمغفرة وأن يجعله الله في واسع رحمته.

لم يكن الدكتور فؤاد مجرد كاتب عادي، بل كان طبيبًا لأوجاع القلوب وبلسمًا شافيًا للحياة، يزيل العقبات من دروبها و يزين شرفاتها بالزهور والألحان، كان يتفقد أحبابه ب meticulously رسائله الفيّاضة بالحب الخالص.. يرسل رسائل الواتساب حتى في أصعب لحظات مرضه للاطمئنان على أحوال محبيه، كانت حروفه تنهمر كشلال من النور الوضّاء يمحو كل ظلام ويزرع عبر المسافات الواسعة بساتين من الأمل والتفاؤل قبل أن يذيلها باسمه و(مايو كلينك- روتشستر).

غاب عنا فؤاد عزب بجسده، لكنه سيبقى خالدًا في ذاكرة كل من عرفه.

قبل رحيله بشهر واحد، كتب واصفًا لحظة خروجه من المستشفى إلى منزله:

«شعرتُ بأن الدنيا بأسرها تحتفل بقدومي، ازددتُ بهجة وسرورًا، وروحي كانت ترقص طربًا.

كنت كمن يقرص نفسه مرارًا وتكرارًا، ليتيقن أنه يعيش هذه اللحظات حقيقة لا خيالاً.

صوت زوجتي كان يتردد في أرجاء المنزل كترنيمة سماوية، لقد أعدت لي وجبة إفطار منزلية شهية، خبزًا محمصًا، وزبدة طازجة، وقهوة معتقة، وعصير برتقال منعش، وبيضًا مقليًا، ممزوجًا بالزعتر العطري والحبق الفواح والطماطم الشهية وجبن ريفي.

ما أجمل الصباح عندما يبشرنا بأن الأمنيات مهما تأخرت سيأتي الفجر محققًا إياها، كانت أغاني (Ann Murray) تعبق في أرجاء البيت من راديو المطبخ، بصوتها المفعم بالدفء والممتد بنعومة على ثنايا الخشب الذي تشبع بقطرات المطر:

You gave me strength

To stand alone again

To face the world

وقع الأغنية في أذني كالسحر، شعور مبهم وعميق يلفه الحنين، غمرني وأنا مندمج مع كلمات الأغنية. قطار القرية العتيق ما زال يشق طريقه بمحاذاة نهر «الميسوري»، مطلقًا صوته الشجي، مرحبًا بعودتي.. وتلمع عيناه الأماميتان ابتهاجًا وفرحًا غامرًا. يا أيها القطار المسن، ما أقوى ضجيجك، وما أضعف بنيتك، تمامًا مثلي.

لقد اشتقت إليك، وإلى كل لحظة عشتها في (بارك فيل). كان شعري أسودًا حالكًا، وأحلامي بيضاء نقية كالثلج، تغير لون شعري، لكن أشواقي ظلت بيضاء. لقد اشتقت إلى ممارسة الكثير من الأشياء، التي حرمت منها خلال العامين الماضيين. اشتقت إلى أن أمد يدي لأصافح فجرًا مشرقًا تملأه العصافير التي تتغذى من كفي، وأن أزرع حديقة منزلي بأناملي، وأن أتبضع في سوق المزارعين، مرتدياً قميصًا من القطن الأبيض الناصع، وأن أعد إفطار زوجتي بيدي، وأن أسافر إلى بحيرة (أوزارك) الساحرة لأعود في المساء، وأنا أجر قاربي خلفي، وأن ألقي بجسدي المنهك على أقرب كرسي هزاز، وأمارس هواياتي المحببة، في التنقل بين محطات التلفزيون المختلفة.

اشتقت إلى أن أغمر رأسي في الثلج، وأن أرقص على الجليد بقدم واحدة.. وأن ألتهم حبات الكستناء الساخنة من بين الجمر مباشرة، وأن أجد الوقت الكافي لمراجعة قراراتي وتوجهاتي، وأن أرى العالم بصفاء ونقاء. أبحث عن كل ذلك في أعماق نفسي بصدق وتجرد، وأن أطور ذاتي واصلحها..!»

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في الفردوس الأعلى.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة